الأعشاب.. ملاذ الفلسطينيين بعد نقص الأدوية
من بيت حانون إلى السوق المركزي بمخيم جباليا المكتظ بالسكان تقطع أم فتحي ( في النصف الثاني من خمسينيات عمرها ) مئات الأمتار بمساعدة عربة تقودها دابة لتقطف أصناف مختلفة من الأعشاب البرية من مناطق مختلفة بالقرب من الحدود الفاصلة مع الأراضي المحتلة عام 48 والتي تسيطر عليها دولة الاحتلال .فما إن ترسل الشمس أشعتها الدافئة حتى تستقل أم فتحي عربتها باتجاه المناطق الحدودية حيث تنمو بكثرة أعشاب وزهور برية طبية تقطفها على عجل من أمرها ويرافقها طفلها جهاد في العاشرة من عمره إلى سوق جباليا المركزي تبيعها ببضعة من الشواكل لا تتعدى العشرة (الدولار =3.5 شواكل) وما إن تنهي مهمتها حتى تغدو إلى سوق الحبوب تبتاع بما جنته من نقود بعضاً من الدقيق تعود به إلى البيت تطهي الخبز لأطفالها دون أن تسترق النظر لما في السوق من خضار طازجة ولحوم وفواكه لا تستطيع أن توفر ثمنها المرتفع بفعل الحصار الذي أرخي بظلاله الثقيلة على ملامح الحياة الفلسطينية جميعها، تؤكد أم فتحي أن بيع الأعشاب الطبية مصدر رزقها وأولادها الوحيد في ظل بقاء عاطلاً عن العمل ، وتضيف :"لست الوحيدة التي أعمل في بيع الأعشاب الطبية فالكثيرات من النسوة أيضاً يعمدنَّ إلى بيع الأعشاب والأزهار البرية الطبية ليوفروا لقمة عيش لأسرهنَّ الفقيرة في ظل الأجواء التي فرضها الحصار من فقر وبطالة وعجز عن توفير أبسط الاحتياجات ولا سيما الضروريات " .
سوء الحالة الاقتصادية
أسهمت الحالة الاقتصادية التي خلفها الحصار أدت إلى تعزيز ظاهرة التداوي بالأعشاب لدى فئات كبيرة في المجتمع الفلسطيني، فالأدوية والعقاقير باتت تفتقد بعضاً منها المستشفيات والمراكز الصحية والصيدليات خاصة تلك المتعلقة بالمضادات الحيوية اللازمة لعلاج بعض الأمراض.لقد بات الفلسطينيون يستبدلون نقصان الأدوية بتوليفة من الأعشاب والأزهار البرية الطبية التي تبيعها النسوة الفقيرات بعد جنيها من المناطق الحدودية شمال قطاع غزة باعتبارها مناطق جبلية تنمو على سفحها الأعشاب والأزهار البرية المختلفة ذات النفع والدواء كالزعتر والبابونج والمرمية التي تستخدم في علاج الأنفلونزا، إضافةً إلى الأزهار البرية التي تضفي جمالاً وبهاءً على المنطقة فتبدو الألوان فيها متناغمة بين الأصفر والبنفسجي والأحمر في زهرة شقائق النعمان، غير أن النسوة لا يعيرون الأزهار البرية بالاً فالأهم لديهم جمع تلك الأزهار التي يمكنهنَّ بيعها وجلب احتياجات أطفالهم بما تدره عليهنَّ من نقود زهيدة .
العطارون يتحدثون
وبالانتقال إلى سوق العطارة في مدينة غزة لبيان مدى اعتماد الفلسطينيين على العلاج بالأعشاب أكد العطارون هناك أن السنوات الأخيرة شهدت إقبالاً على شراء الأعشاب المستخدمة في علاج العديد من الأمراض المستعصية كأمراض الكلى والسكر وحب الشباب وتساقط الشعر وتخفيف الوزن أيضاً وغيرها من الأمراض التي انتشرت بكثرة في الآونة الأخيرة .يقول الحاج زين الدين أن حركة البيع في الأعشاب زادت في الآونة الأخيرة خاصة لفئة المتعلمين والمثقفين بعدما اقتصر بيعها في السابق على عامة الناس الذين يؤمنون بطب الآباء والأجداد ويرى زين الدين أن السبب هو نقص الأدوية بسبب الحصار إضافة إلى زيادة الوعي بأهمية الأعشاب وقيمتها العلاجية خاصة من قبل الصيادلة الذين يدرسون تفاصيلها الدقيقة ويلفت هنا زين الدين أن أكثر الأعشاب التي يبيعها هي البابونج والزعتر لعلاج الآلام الصدرية الناتجة عن الكحة، بالإضافة إلى رجل الحمامة ولوف السبع لتخفيف الوزن، وقشر الرمان مع الصبرة المرة لداء السكري والكاركاديه لداء الضغط وكذلك الشعير الذي تستخدم مياهه بعد غليها في تخفيف آلام الكلى وحبة البركة.
75% من الفلسطينيين يتوجهون إلى الأعشاب
في فصل الشتاء تكثر أمراض الرشح والأنفلونزا وفقاً لانتشار بعض الفيروسات في الجو، ومع الحصار وقلة الأدوية والحالة الاقتصادية السيئة للمواطنين بدأ الاتجاه بكثافة إلى التدواي بالأعشاب والأزهار الطبية البرية، فضمة من البابونج أو الزعتر بشيكل واحد بإمكانها إنهاء معاناة السعال الذي يرافق الرشح لدى الأطفال ذوي الأسر الميسورة بينما تعمد الأسر الفقيرة إلى التفتيش عنها في الأحراش القريبة لعدم امتلكها الشيكل.رئيس مجلس إدارة طب الأعشاب بغزة د. منى الكيلاني تتحدث عن توجهات الأسرة الفلسطينية للطب البديل فتوضح أن 75% من الفلسطينيين تحولوا في الفترة الأخيرة للعلاج بالطب البديل لافتة إلى أن أغلب مرتادي العيادة لديها مثقفون ومتعلمون على عكس ما كان متعارف عليه في السابق أن الذين يلجئون إلى العلاج بالأعشاب هم عامة الناس الذين لا يحظون بدرجات كافية من التعليم ، مشيرة إلى أن هذه النسبة تدلل على الاقتناع بنجاعة الطب البديل، داعية إلى وجود رقابة على جمعيات ومراكز التداوي بالأعشاب حتى لا يقع المريض في أيدي مشعوذين يدعون زوراً أنهم يعالجون بالأعشاب والطب البديل فيوقعون بالمريض أخطاراً وأمراضاً أخرى غير التي عانى منها.من ناحيتها تشير د. منى الكيلاني رئيس مجلس إدارة طب الأعشاب بغزة إلى الأعشاب التي تفيد في إزالة أثر بعض الأمراض العرضية لدي الأطفال والكبار فمثلاً المغص والإسهال لدى الأطفال يزول أثره بتناول المريض كأس من مغلي المرمية مع ملعقة صغيرة من عصير الليمون على مدار ثلاث أيام لافتة أن الوصفة تعمل على غسل وتطهير الأمعاء بصورة جيدة، وأضافت :" يمكن التخلص من آلام الانتفاخ بتناول ملعقة من حبة البركة المطحونة ممزوجة بملعقة أخرى من السكر الفضي صباحاً قبل تناول أي طعام، بينما النعناع و الزعتر والبابونج تفيد في تهدئة آلام السعال التي تصاحب الأنفلونزا والرشح " .
صيدلية عشبية في المنزل
تعتمد أم أشرف على حبوب الشعير لإزالة آلام الكلى التي تستوطن جسدها منذ سنوات طويلة وتتفاقم عليها باعتلال جسدها بأمراض مزمنة أخرى كالضغط والسكري.تقول السيدة لنا بينما كانت تبحث بين بستانها المتواضع عن نبتة الشعير أنها باتت لا تستطيع في الآونة الأخيرة توفير ثمن مياه الشعير الغازية التي تعمل على التخفيف من آلام الكلى لأسباب مختلفة أولاها فقرها ببقاء أبنائها الأربعة عاطلين عن العمل ولا سيما حظر دولة الاحتلال دخول الكثير من المنتجات المستوردة للقطاع وفقاً لحالة الحصار المفروضة عليه ، وأضافت أنها عمدت إلى نثر بعض حبوب الشعير في مساحة لا تتجاوز عشرة أمتار أمام منزلها بالإضافة إلى بذور المرمية والبابونج و الزعتر ليكون لديها صيدلية عشبية لا تضطر بوجودها إلى شرائها من السوق، قائلة "لا أخفي عليك أن هذه الأعشاب تباع بأسعار زهيدة لكن الحالة الاقتصادية للأسرة الفلسطينية تجعل أفرادها يعزفون عن شرائها وتوفير ثمنها لغرض آخر أكثر أهمية بينما يعمدون إلى توفيرها من الجيران أحياناً وأحياناً أخري بالبحث عنها بين الأحراش وتخزينها من العام للعام حيث يكثر استخدامها في أجواء الشتاء الباردة" على حد تعبيرها .وتشير أم أشرف أن هذه الأعشاب لا تحتاج لعناية لتكثيف إنتاجها وغالباً ما تنبت طبيعياً بين أعشاب الأرض الأخرى كالخبيزة وزهر شقائق النعمان ويكثر ظهورها في فصل الشتاء والربيع مؤكدة أن كثير من الناس يعمدن إلى تخزينها للعام القادم والاستفادة منها في الأجواء المرضية العارضة كبديل عن الأدوية التي تحتاج إلى الكثير من الأموال لتوفيرها في ظل حالة الفقر التي يعاني منها الفلسطينيين جميعاً.بينما تؤكد الفلسطينية أم العز أنها تلجأ إلى الأعشاب كعلاج ناجع لأعراض السعال لدى أطفالها في فصل الشتاء قائلة:" أن كأس من البابونج الدافئ من شأنه أن يهدأ السعال في صدر أطفالها وينهيه إلى زوال في أيام معدودة بعكس الأدوية الكيماوية والمضادات الحيوية التي لا تؤتي ثمارها أحياناً في الحال بل تحتاج لإنهاء الطفل كورس العلاج"، مشيرةً إلى أنها في كثير من الأحيان وفقاً لظروفها الاقتصادية لا تستطيع شراء الأصناف المختلفة من الأدوية التي يشير بها الطبيب إليها إضافة إلى أنها أحياناً تكون غير موجودة بسبب الإغلاق وقالت :" حينها يكون البديل العشبي أفضل، يكفي أنها من الطبيعة بالتالي ستكون أمن على صحة أطفالي الصغار وإن لم تنفعهم فسأضمن أنها لن تضرهم وتفاقم أمراضهم لأنها طبيعية بإذن الله الكريم ".