أم أحمد صيام .. قلب نابض بالحب وأنامل ترسم الأمل على شفاه أطفالها
خمسة أمتار فقط قطعتها أقدامنا اتجاهاً نحو الصوت المنبعث من إحدى غرف منزل أم أحمد صيام، الكائن بحي الزيتون شرق مدينة غزة الذي لا يعلو عن سطح الأرض سوى أمتار لا تتجاوز الستة .في تلك الغرفة اتكأت أم أحمد إلى إحدى جدرانها تنهي أعمال تنجيد بعض ألحفة الأطفال التي برعت في تصميمها منذ كانت صبية في بيت والدها، فبزرقة البحر وصفاء السماء وبريق النجوم تلون اللحاف الذي تنجده بأناملها، تماهت فيه الخطوط طولا ًوعرضاً مكونة أشكالا هندسية غاية في الدقة والإتقان, وما إن فردته على قدميها حتى بدا قلباً كبيراً نابضاً بالحب والدفء تماماً كقلبها الذي غمرت بدفئه أبنائها الأربعة عشر بعد أن تدهورت أوضاعهم الاقتصادية وباتوا يشكون الجوع والفقر بعدما اعتزل والدهم العمل رغماً عنه بقرار من الاحتلال الذي منعه والآلاف من العمال الفلسطينيين الولوج إلى أماكن عملهم داخل الأراضي المحتلة عام 48 عقب إندلاع انتفاضة الأقصى.والتفاصيل ترويها أم أحمد لـ" إنسان أون لاين " ويشهد عليها أبناؤها وزوجها الذين شاركوها مسيرة التحدي والصبر والعطاء في ظل الإغلاق والحصار ومحاربتهم في لقمة عيشهم فكانوا جميعاً نموذجاً نابضاً بالأمل يحتذى به .أشارت عقارب الساعة العاشرة بتوقيت القدس المحتلة، أشعة الشمس ما زالت عمودية لكنها ليست حارقة بل تبعث بعضاً من الدفء ، وصلنا إلى بيت أم أحمد الذي بدا وقد انتهى من بنائه قريباً لقلة تأثيثه, قليل من الفراش الأرضي تناثر في الغرفات هنا وهناك ,بعضه للنوم والآخر للجلوس في صالة الضيوف، استقبلتنا أم أحمد في معملها الذي تقضي فيه جل وقتها، ابتسامة عريضة رسمتها على ملامحها وهي تحاول تعديل جلستها لتستقيم وقوفاً لكنا سارعنا بالجلوس إلى جوارها حينما لمسنا آلامها، وبدأت تسرد حكايتها مع التنجيد الذي كان سبيلها للخروج من حالة الفقر والجوع التي عانتها وأسرتها منذ أن فقد معيلها- زوجها وأب أبنائها- مصدر رزقه في العمل داخل الخط الأخضر عقب اندلاع انتفاضة الأقصى، حيث بدأت قصتها قائلة :" منذ طفولتي كنت أبصر أمي تنجد الألحفة بطريقة مميزة جميلة تصنع منها لوحات فنية ينبهر بها كل من يراها في بيتنا، لكني لم أتوقع أن تكون مهنة التنجيد سبيلي للتغلب على ألام الفقر والجوع التي عانيتها وأسرتي منذ زمن "، تصمت قليلاً وما تلبث أن تتابع بمزيد من الحماسةوالفخر:" البداية كانت ببساطة في سوق الجمعة لا تتعدى اللحافات الخمسة حسب نشاطي في العمل، كنت كل أسبوع أفترش جانبا من السوق أعرض بضاعتي على الزبائن و لم يكن يشتري مني أحد ً في البداية فقد ولى زمن الألحفة المنجدة يدوياً وبات الطلب على الألحفة المصنعة المزينة بصور الأطفال من بطوط وتوم وجيري وفلة وغيرها, لكني لم أيأس و عدت إلى السوق في المرة الثانية " ، وتضيف :"الحمد لله حالفني الحظ وبعت بعض إنتاجي وكم كانت فرحتي حينها، شعرت أني أعانق السماء وزادت فرحتي عندما رأيت الابتسامة تشق ملامح أطفالي حينما عدت لهم باحتياجات طال انتظارهم لها ، عندها صممت على متابعة العمل بمزيد من الجد والاجتهاد لتأمين احتياجات أسرتي وإبصار ملامح السعادة في عيونهم على الدوام ".
رأس المال
و تسير حياة أم أحمد صيام بمزيد من الأمان والاستقرار المعيشي، فتولى زوجها عملية التسويق والتوزيع على تجار سوق البسطات بالشجاعية بينما بناتها عملن على مساعدتها في حياكة وتزيين الألحفة، مضيفة :" أتولى أنا عملية التطريز والتغريز على الألحفة فما زالت أنامل بناتي لا تقوى على إتقانها فهي تحتاج إلى موهبة وخبرة في ظل ضيق وقتهن والموزع بين ترتيب أمورهن المعيشية وواجباتهن المدرسية ومساعدتي في أعباء المنزل فمساعدتهن لي تقتصر على نفش الصوف وتعبئته في الألحفة وهنَّ ماهرات في ذلك وسريعات أيضاً "، مؤكدة أن ذلك لا يؤثر على حياتهن الدراسية فهنَّ متفوقات في الدراسة, وتؤكد صيام أن عملها لا يؤثر على اهتمامها ورعايتها لأفراد أسرتها حيث تنظم وقتها بينهم ففي ساعات الصباح تنشغل بترتيب المنزل وقضاء احتياجات أسرتها من طعام ومناقشة أمورهم ومتابعة دراستهم خاصة الصغار منهم، وفي ساعات المساء ترتكن إلى معملها فتحيك الألحفة وتنهي عمليات تطريزها وتزيينها بدقة بالغة ومهارة رائعة.وتستمر في الحديث عن مشروعها الصغير قائلة :"مع ازدياد أعباء الحياة وزيادة مصاريف الأبناء لم يكن لي بد من الاتجاه إلى احدى الجمعيات الخيرية علّها تدعم مشروعي بقليل من المال أو المواد الخام وبالفعل كان النداء مني والاستجابة من جمعية المجمع الإسلامي "، وأضافت :" دعمتني الجمعية بمبلغ متواضع كان بمثابة رأس المال لي من خلالهم تمكنت من تأمين المواد الخام من أقمشة بأنواع مختلفة ملونة بالإضافة إلى الخيوط والخرز اللازم للتزين، فزاد إنتاجي واتسعت رقعة البيع والحمد لله زاد الربح، وتمكنت من خلال عملي بتنجيد ألحفة الأطفال من مساعدة زوجي في بناء منزلي هذا لكنه ما زال يحتاج إلى الكثير ليبدو صالحاً للسكن "، مؤكدة أنها تحايلت عليه فالنوافذ أغلقتها بالشادر المقوى وفواصل الأبواب بين الغرف استعاضت عنها بأقمشة أخرى .
أمنيات في واقع صعب
ليس الأمنيات محدودة لدى أم أحمد بالإمكانيات فهي تطلق العنان لطموحها بأن يعانق السماء وبمزيد من الصبر والعطاء تستطيع أن تجعله واقعاً ملموساً.تتمنى أم أحمد أن يزداد نشاطها وتسوق منتجاتها عربياً وعلى مستوى المحافظات الفلسطينية كلها، وتحلم بأن يوفقها الله وتكمل تجهيز بيتها بالأثاث والكثير من النواقص أهمها النوافد خاصة مع دخول فصل الشتاء كي لا تداهمها الأمطار فتغرق بيتها ,وأملها الكبير أن يفيض رزقها عن حاجتها الأساسية فتتمكن من إدخار مبلغاً من المال تستطيع من خلاله تلبية حاجات أبنائها ، وتتمنى أن يعم الخير أرجاء الدنيا فلا تجد حولها جارا يحتاج مساعدة أو صديقا يفتقر أبناؤه إلى لقمة الخبز في ظل الحصار الظالم الجائر .