الشاي والقهوة في شوارع وطرقات وطولكرم ، ، بديل لمواجهة البطالة
بسطات متواضعة وأكواب شاي فارغة ومرصوصة عليها بطريقة متناسقة، وأوراق النعناع والميرمية التي تفوح عطرها في المكان، وأصوات تتعالى للبحث عن زبون يرتشف كوباً من الشاب أو فنجاناً من القهوة، مشاهد باتت تتكرر في الشارع الكرمي في الضفة الغربية كمهنة بديلة تساعد أصحابها في توفير مستلزمات الحياة الصعبة.فالبحث عن بدائل ومهن جديدة أصبحت ضرورة ملحة لدى مواطني طولكرم مع ازدياد التصعيد الإسرائيلي ومضاعفة سياسة الحصار والإغلاقات التي تعيشها الأراضي الفلسطينية منذ فترة طويلة.فعلى ناصية إحدى الشوارع الواصلة إلى مركز مدينة طولكرم مروراً بمستشفى الشهيد ثابت ثابت الحكومي، يرى الداخل إلى السوق بسطة متواضعة عليها لوح خشبي بالٍ، مثبت عليه أباريق الشاي والقهوة الخالية من السكر.ولا تخلو البسطة، من العشرات من أكواب الشاي الفارغة المرصوصة بطريقة متناسقة وأوراق النعناع والميرمية حسب رغبة الزبون، وأنبوبة غاز صغيرة يكون صاحبها على أهبة الاستعداد لأية طلب يطلبه الزبون لتصله خلال لحظات محدودة من قبل أحد العمال المتخصصين بتوصيل طلبات الزبائن.ويطلق صاحب البسطة صيحات بين الحين والآخر، أثناء سيره في الشارع معلناً عن وصوله، ويتفنن في حمل تلك الأكواب بطريقة ماهرة اكتسبها من خلال سنين عمله في هذه المهنة.وتعتبر هذه البسطة مثالاً حياً وواقعاً أليماً أوجده الاحتلال الإسرائيلي، وباتت المقاهي تذهب إلى الزبائن أينما حلوا في متاجرهم أو في مكاتبهم أو أماكن عملهم على طول الشارع إضافة إلى العابرين ممن لم تسعفهم ظروفهم شرب قهوة الصباح في منازلهم نظراً لطبيعة عملهم. وهكذا تحولًت العديد من أرصفة المدينة إلى بسطات متواضعة في تركيبتها ومحتوياتها، يتم اختيار مكانها ضمن أفق إستراتيجي يدور في مخيلة صاحبها الذي تقطعت به سبل الحياة ويحلم في تقاطر الزبائن عليه وتوفير ما يستطيع من نقود للعودة بها إلى صغاره لسد الرمق.وانتشرت مهنة بيع الشاي والقهوة وازدادت بين العاطلين عن العمل في السنوات الأخيرة، بحيث باتوا يحتلون شوارع المدينة ويتمركزون في أماكن الحركة والضجيج لتصريف ما بجعبتهم من الشاي، الذي تفوح منه الروائح العطرية والقهوة بنكهة الهيل.ومع مرور الأيام بات أصحاب هذه البسطات على علم ودراية بمواعيد توصيل الطلبات إلى أصحابها ومشروباتهم المفضلة دون الحاجة إلى استشارتهم أو تخييرهم، فتراهم يدخلون المحل التجاري ويقومون بتوزيع الأقداح المصفوفة على الصواني النحاسية بسرعة البرق.ولا يلتفت هؤلاء إلى تلقي الثمن فكما يقولون الحساب يجمع، فمنهم من يحاسب أصحاب المحلات أو سائقي السيارات العمومية المارة أو المكاتب الخاصة أسبوعياً أو يومياً على ما تلقاه طيلة هذه الفترة.وكما يقال، فإن لكل مهنة أسرارها وعجائبها مهما كبرت أو صغرت، فمهنة بيع المشروبات الساخنة باتت تنتشر أكثر وأكثر مع اشتداد الخناق الاقتصادي الإسرائيلي الذي تعيشه المدينة كغيرها من سائر المدن الفلسطينية، والذي يتطلب معه البحث والبحث عن المزيد من البدائل لتخفيف حدته وآثاره الخطيرة على كافة الأسر.وتعتبر هذه المهنة كما يصفها أصحابها من أقل المهن التي تتطلب رأس مال، فهي لا تحتاج سوى لمبلغ مادي صغير لدخول هذا السوق، لكن في الجانب الآخر تتطلب المزيد من التعب والمشقة.فأصحاب هذا العمل يقضون جل النهار وأحياناً سويعات الليل وقوفاً على أقدامهم، ويطوفون في قلب المدينة بحثاً عن الزبائن لقاء حفنة من الأموال القليلة التي تشعرهم أنهم كما يقولون منتجين لا يستجدون الصدقات من أحد، على قاعدة أن العمل شرف.أبو مجدي سائق سيارة عمومية، تعود كما يقول أن يبدأ يومه بكأس من القهوة الخالية من السكر، يقوم بشرائها من تلك البسطة الوحيدة في الشارع المؤدي إلى قلب المدينة، والذي درجت العادة عليه أن يقف مركبته بانتظار التقاط زبون من هنا وهناك.ويضيف أبو مجدي، أنه يقضي جل وقته بالدردشة وشرب أكواب القهوة والشاي مع صاحب البسطة كلما وجد وقت فراغ لذلك، حيث يقوم الأخير بتوزيع الطلبات على زبائنه لوحده دون الاستعانة بأحد توفيراً للنفقات.ولا تعني انتشار تلك البسطات واحتلالها للأرصفة وتقاسم طرقات السوق بأية حال من الأحوال إلغاء ارتياد المقاهي التقليدية العامة، وإن كانت تنافسها، فهي الأخرى تغص بجيوش البطالة من كل حدب وصوب إضافة إلى شريحة المتقاعدين التي تعتبر لهم الملاذ الأول والأخير لقتل الوقت الطويل.والمتجول في سوق طولكرم يلاحظ حركة تلك الباعة الدؤوبة التي لا تهدأ وبشكل منظم، فالكل بات يعرف زبائنه وحدود منطقته التي يتجول بها، لا يمكن لزميله التعدي عليها وفق اتفاق ضمني بينهم، يسموها فيما بينهم (نطاق التغطية).ويبدو نهاد أحمد أبو شاكر صاحب إحدى البسطات أو كما يسميها البعض (المقاهي المتنقلة) سعيداً بعمله الدخيل عليه منذ ثلاثة أعوام فقط، ويقضي معظم وقته به ويؤمن له احتياجات عائلته اليومية دون نقصان.ويضيف أبو شاكر، أنه يعمل بنظام فترتين صباحاً ومساءً فتارة يكون داخل سوق الخضار ليتعالى صوته ويتداخل مع أصوات أصحاب بسطات الخضار الذين ينتظرونه لشرب قهوة الصباح قبل اشتداد حركة البيع والشراء.ويشير أبو شاكر إلى أنه يعود بعد فترة زمنية يحددها بنفسه للملمة الأكواب الفارغة وغسلها وإعادة الكرة مرة ثانية على من لم تسعفه ظروفه بالشراء في الفترة الأولى أو من يحب تجديد الطلب.ويبقى أبو شاكر هكذا، يقضي وقته يطوف من بسطة إلى أخرى ومن محل إلى آخر حتى آذان الظهر وهو موعد الصلاة وإقفال خزانته الحديدية التي يضع بها عدة عمله استعدادا إلى رحلة العمل المسائية.ويوضح أبو شاكر، أن زبائن الفترة المسائية مختلفون تماماً، فهم من المارة والشباب المتسكعين بالشوارع بلا هدف معين أو أصحاب السيارات المارة الذي يضطر معها إلى بيعهم المشروبات الساخنة بأكواب بلاستيكية غير مستردة، تستعمل لمرة واحدة فقط.أبو شاكر رب أسرة مكونة من سبعة أفراد إضافة إلى زوجته ووالدته العجوز، عمل سابقاً في مهنة البناء داخل أراضي الـ48، وتلقى أجوراً ممتازة بحكم مهارته المشهود لها، إلا أن ظروف الاحتلال حولته إلى مجرد بائع وصاحب قهوة متنقلة ينتظر المبالغ المادية القليلة لتوفير جزء من الأعباء والمسؤوليات الملقاة على عاتقه.وقادت الظروف البائسة أبو شاكر كما يقول إلى تلك المهنة البسيطة، وتحول معها إلى شخصية معروفة في السوق، فالزائر للمدينة يجب أن يلتقي به ويسمع صيحاته وصوت الأكواب الزجاجية الفارغة التي تتراقص بين يديه، مستعداً لصب الشاي. من الإبريق الضخم الذي يمسكه بين يديه، أصبح يرتاد ويطوف داخل مطاعم الحمص والفول، بعد الاستئذان من أصحابها لعرض ما لديه من مشروبات على الزبائن وقت إفطارهم.ولم يكن أبو شاكر سوى لسان حال الكثير وصورة معبرة لمن امتهنوا هذه المهنة الدخيلة على أسواق طولكرم، وأصبحوا يذهبون إلى الزبائن عكس المقاهي العامة التي يقصدها المواطنون منذ سنوات طويلة.ويعد عمر المقاهي في طولكرم أكثر من ثلاثة أرباع القرن، وأطول من عمر الاحتلال الإسرائيلي الذي يتفنن في تجسيد سياسة التجويع والخنق الاقتصادي، التي تتطلب المزيد من الجهد والمعاناة للتغلب عليها.