"التنمية" .. تتسول !
لا يتردد الواحد منا في انتزاع بعض ما في جيبه لامرأة لحوحة ترجوه أن يعطيها ما تطعم به رضيعها الذي بين يديها, ولكن يتردد ألف
ألف مرة إن كان الأمر يتعلق في مشاركة مالية لصالح مشروع تنموي هادف إلى الارتقاء بالشباب وقدراتهم آملا في تحقيق النهضة
المنشودة!
لا أنطلق في حديثي من زاوية الإفتاء إذا ما كان التصدق على المتسولين جائز أم لا, وإذا ما كان الإنفاق من أجل البناء المجتمعي
أعظم من إطعام الجوعى أم لا, إنما أنطلق منطلقاً فكرياً تنموياً في الإجابة على السؤال: أيهما أدوم وأوجه التصدق من أجل
محتاراً طعام مهضوم, أم من أجل غايات وأهداف أممية عظمى باقية؟! الباب القريب من الناس ليفضوا بأموالهم هو باب المحتاجين للطعام أو ُ مدعي الحاجة, بل إن الواحد منهم لا يشعر باللذة والنشوة الروحانية إلا إذا كانت صدقته ذاهبة إلى أفواه الجائعين مباشرة دون وسائط أو قرائن.
بإمكان أي رجل أن يقف على باب أي مسجد ويحمل بين يديه سجادة صلاة وأن يردد بعض العبارات المعتادة سائلاً الناس أن يصبوا أموالهم لأي شيء مما تعرفه الذاكرة النمطية, ولكن لو وقف هذا الرجل على باب المسجد ذاته وحمل السجادة ذاتها وردد العبارات ذاتها وطلب
من الناس مالهم لصالح جمعية وطنية تعمل في حقل التنمية والتطوير الشبابي, برأيكم كم من المال سيجمع؟!
أن تطلق حملة تسأل الناس فيها مالاً لتوفير السلال الغذائية للأيتام والأرامل والعاطلين عن العمل أمر مستساغ ومفهوم وناجح لا سيما لو كان لديك مهارة الاستعطاف واستدرار الدموع, ولكن مالاً لمشروع تشغيلي قد يساهم في حملة تسأل الناس فيها إيجاد مصادر دخل بسيطة تكفي الناس ذل السؤال فهي حملة م َ جا ِ زفة, وفرص نجاحها في لفت استعطاف المتبرعين لها تكاد تكون معدومة.
روى البخاري عن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم) فسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، ح ْ ل س (كساء غليظ) نلبس بعضه، ونبسط بعضه، و َ ق ْ ع ب (إناء) ٌ ٌ نشرب فيه الماء، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) بيده، وقال: من يشتري هذين)؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشت ر بأحدهما فانبذه إلى أهلك، واشتر طعاماً بالآخر فأتني به.. فأتاه به فشد فيه رسول الله (صلى الله عليه قدوماً وسلم) بيده، ثم قال: اذهب واحتطب وبع، ولا أري نك خمسة عوداً ّ عشر ففعل، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها يوماً، وببعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا ثوباً، طعاماً، خير لك من أن تجيء، والمسألة نكتة في وجهك يوم القيامة). أين الخلل؟!, وما العمل؟!
الخلل في :
الثقافة التي تربينا عليها, والخطاب الإعلامي الديني الذي نشأ عليه ناشئ الفتيان فينا, ترعرعنا على أن الصدقة الحقيقية هي الخبز في
أفواه الجائعين فقط, فيما غابت عن تربيتنا الدينية مقاصد التشغيل والتطوير والتنمية المستدامة.
العمل في :
أولاً/ مراجعة الخطاب الديني المتعلق بالصدقة والإنفاق والزكاة بما يعيد التنمية إلى ذهنية المسلمين المتصدقين والم ّ زكين, والتوسع
بانفتاح في شرح مجالات المصرف قبل الأخير من مصارف الزكاة، ألا وهو "وفي سبيل الله" بما يراعي متطلبات وحاجات العصر المتجددة.
تغذية المناهج التربوية بالمفهوم المصلحي الأرقى والأدوم
ثانياً/ للصدقة، وإعادة الهيبة للإنفاق الإغاثي كما هي للإنفاق التنموي. تعديل خطاب الإعلام التوعوي في مجال الصدقة والإنفاق
ثالثاً/ لصالح التنمية والتطوير.
الحاجة للصدقات المباشرة لسد حاجة الأفواه الجائعة لا ننكرها في أي مجتمع من اتمعات, ولكن ما ننكره (فكرياً) هو أن تصبح التنمية يتيمة متسولة، فلا يعطف عليها أحد، ولا يجعل لها نصيباً مما أعطاه الله, صحيح لا نريد أن تنهار أسرة بسبب الجوع, ولكن أيضاً لا نريد أن تنهار جمعية وطنية تنموية بسبب الفقر.