أطباء غزة .. قلوب تبكي عند موت مرضى عجزوا عن علاجهم

حين يلهج طفل دون العامين من عمره أنفاسه الأخيرة, ودماؤه النازفة تلطخ وجهه و تمحي بتدفقها ملامحه، لا تملك إلا ان تتمالك نفسك، تثبت رعشة يدك علَّك تنأى به عن الموت بحياة أخرى، وحين تطل في وجهك طفلة دون الخامسة وقد غطت ملامحها الشظايا الصاروخية التي التصقت بجدار وجهها كالتصاق المحار بالبحر، لا تجد إلا الدموع تتدفق أنهاراً وتحاول مجدداً أن تنأى بها عن مصير مؤلم، لكنك تقف عاجزاً حين ترى الشهداء أشلاءً ممزقة ولا تعرف أيُّ ساق لأحمد وأيُّ يد لمحمود فينتفض قلبك ولا تملك إلا لملمتها في كفن واحد لتوارى الثرى..مشاهد من آلاف المشاهد القاسية في حياة الأطباء الفلسطينيين الذين أخذوا على عاتقهم إنقاذ حياة المرضى والجرحى بإذن الله، عندها لا يتوقف العمل رغم الحصار وضعف الإمكانيات فقط تبقى الرسالة ويبقى القسم نابضاً في قلوب الأطباء فيجاهدون بكل ما استطاعوا أن يعيدوا الابتسامة على الوجوه.ويعتبر مجمع الشفاء الطبي المركز الأول لغزة على الأقل من ناحية استعداده لاستقبال حالات الطوارئ بصورة عامة، ومع الاجتياحات المتكررة من قبل الاحتلال للأراضي الفلسطينية ووقوع العشرات من المصابين والجرحى بحالات مختلفة بات المستشفى مزدحما جداً بالإصابات الشديدة.وفي هذا الصدد يؤكد د. صبحي سكيك رئيس قسم الجراحة أن القسم بالمستشفى يستقبل المرضى من مختلف التخصصات والأشكال من حيث خطورتها ودرجة الاستعجال في علاجها، لافتاً أن مرضى الجراحة في مستشفى الشفاء الطبي هم المرضى الذين يحتاجون لإجراء عمليات جراحية خلال أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين لاستئصال أورام أو تخفيف آلام استوطنت أجسادهم واستحال معها الشفاء إلا بالتدخل الجراحي، بالإضافة إلى مرضى العمليات الطارئة الناتجة عن الاجتياحات المتكررة من قبل العدو الإسرائيلي ، والتي تكون يومية وعلى أحياناً، حيث يتم استقبال أعداد مهولة من المصابين خلال دقائق، وأضاف :" قد نستقبل أكثر من مائة حالة في مختلف التخصصات سواء تخصصات العظام أو الأوعية الدموية أو جراحة الأعصاب في يوم واحد "

خطط واضحة للطوارئ

في حالة الطوارئ تجد الأقسام جميعها تعمل على قدم وساق في سبيل إنقاذ حياة أكبر عدد من المرضى يصلون الليل بالنهار في تقديم المساعدة وفقاً لرسالتهم الإنسانية وقلوبهم الحية.والطواقم الطبية الفلسطينية في مختلف التخصصات لها تجربة رائعة، فهمي تعمل بتلقائية شديدة والهدف الأسمى لها إنقاذ حياة مصاب أو مريض، تبعا لخطط واضحة من الوزارة بالتنسيق مع لجنة الطوارئ العليا بالوزارة، منها خطة "أ" و "ب" و "ج" التي هي عبارة عن خطة الطوارئ القصوى يتم خلالها استدعاء كل الطواقم الطبية في مجمع الشفا الطبي سواء الجراحة أو الباطنة وحتى الولادة ومن ثمَّ يتم تقسيمها إلى فرقتين على أساس تغطية المستشفى بأكبر عدد من العمالة سواء أطباء أو ممرضين أو فنيين وإداريين أيضاً، بينما تكون خطة الطوارئ "ب" أقل درجة ، ويعتمد تطبيقها على نوعية الحدث وحجم وخطورة الحالات التي تتوافد للمستشفى ومدى جاهزية واستعداد المستشفى لاستقبالها والتعامل معها ، المهم أن تكون المستشفى دائماً جاهزة في أي توقيت لتنفيذ أي خطة من الخطط الثلاثة بناءً على ما يصل من أنباء عن وجود إصابات، كما أن التنسيق يكون من خلال إدارة المجمع وبالتحديد مستشفى الجراحة بحيث يتم اتخاذ القرارات بالتنسيق مع الوزارة

الإمكانيات المتوفرة

وتبذل الطوقم الطبية هذه الجهود الكبيرة بالرغم من نقص المعدات الطبية والتجهيزات التي تعني منها المستشفيات بين الحين والأخر، ولا سيما الأدوية والمحاليل وفقاً لسياسة الاحتلال في حصار القطاع ومنع دخول المواد الإنسانية و الصحية له ما ينذر بكارثة صحية.وأوضح د. سكيك أن الإمكانيات بمستشفى الشفاء الطبي دائماً بقدر الإمكان، وأضاف :" الوزارة من جهتها لا تألوا جهداً على الإطلاق لتوفير ما هو مطلوب ولازم، فمثلا يواجه قسم الجراحة بالمستشفى في كثير من الأحيان نقص في خيوط العمليات، إلا أن الوزارة تتصرف دوماً من خلال وحدة الطوارئ في الوزارة حيث تقوم مباشرةً بتوفيره وتوريده للمستشفى "، مؤكداً أن المشكلة الكبرى تكمن في المخزون. وأكد أن مخزون المستشفى من وقت لآخر يصل إلى صفر في بعض المحاليل والأدوية وحتى مستلزمات تتطلبها غرفة العناية المكثفة، ما يؤدي إلى خطر على المرضى، مستدركاً :" لكن النقص الحاد نحاول الاستعاضة عنه بالتصرف الفوري كتوفيرها من بعض الهيئات الدولية كالصليب الأحمر وبعض المؤسسات النرويجية، لافتاً أن المساعدات التي تدخل من حين لآخر للقطاع لا تمثل الأساس.وأضاف:"ينقصنا إيجاد مخزون معروف للعمليات ومتطلباتها فأحياناً تنقص أدوية التخدير فلا نتمكن من إجراء عمليات جراحية وبالتالي تهدد حياة المرضى بالخطر ".وقال د. سكيك: إنهم اضطروا في المستشفى لوقف العمليات الجراحية لأكثر من مرة في الفترة الأخيرة رغم أن عملهم غالبا للحالات الطارئة وشبه الطارئة بمنع حالات الأورام أو حالات النزيف " ، وأوضح ان" الحالات الروتينية يحاولون الحد منها لسببين، أولهما المحافظة على المخزون الموجود من الأدوية في حال حاجتها لمرضى آخرين يحتاجونها في وقت فوري، بالإضافة إلى عدم استهلاكه في فترة وجيزة جداً، فيما ينحصر السبب الثاني في الحصار المطبق الذي تفرضه دولة الاحتلال على القطاع لنتمكن من مواجهة النقص سواء في الخيوط أو الأدوية أو معدات وأجهزة ضرورية جداً للعمليات أو غرفة العناية المكثفة، مبيناً لذلك نحاول الحد من الحالات الروتينية وتوفيرها للحالات الطارئة

بدائل ولكن !

من جهته شدد مدير مستشفى كمال عدوان د. بسام أبو وردة على أن القطاع الصحي الفلسطيني يعاني من أزمة حقيقية في ظل وجود الكثير من النواقص في الأدوية والمعدات .وقال: إن أبسط الأمور كالشاش الخاص بتضميد الجروح ليس موجوداً وكذلك محلول الأطفال من أشهر غير موجود مما يضطرنا إلى خلط توليفة من محلول الكبار وتخفيفه ،و نخشى ألا نستطيع بعد ذلك توفيره بالإضافة إلى الكثير من المضادات الحيوية غير موجودة نضطر باستبدالها بأنواع أخرى تكون متوافرة، مؤكداً أن العمل حالياً من خلال المخزون الاستراتيجي للمستشفى. ولفت د. أبو وردة إلى أن الطبيب الفلسطيني يعمل بإمكانيات بسيطة، وأضاف :" أتمنى أن يعمل الطبيب كطبيب ليس لسد عجز وترقيع في مختلف التخصصات الأخرى "، وأعرب عن صدمته" مما آل إليه الوضع الصحي في غزة ، قائلاً :"لم أتوقع أبداً أن نصل إلى هذه المرحلة والحالة المأساوية، الآن بت أخشى أن يصاب أعز الناس إليَّ بمكروه ولا أملك أن أدفع عنه خطر المرض

حكايات المرضى

أن تكون طبيباً لا تملك لمريضك محاولة للشفاء بدواء أو بعملية جراحية، مأساة تعصف بقلبك تدمع عينيك وتلهب مشاعر الغضب في نفسك لكنك لا تملك إلا الدعاء له وأحياناً أخرى تطمئن قلبه بقليل من الأمل قد لا يعدو مجرد كلمات في بحور الأمنيات العريضة بفك الحصار والسماح للمرضى بالخروج للعلاج في مستشفيات الداخل المحتل وخارج قطاع غزة على حدٍّ سواء، لكن الألم الحقيقي الذي يستوطنك حين تسمع أن مريضك قد مات في انتظار السماح له بالمرور عبر الحواجز والمعابر المغلقة، حينها يعجز الكلام عن التدحرج على لسان الحزن والألم ويبقى الصمت سيد الموقف.د. كمال عدوان لم يملك لطفل في الرابعة عشر من عمره شيئاً، ليس لنقص في الخبرة بل لندرة إمكانيات العلاج في الوطن المحاصر، يقول: إنه خلال وجوده في المستشفى حاول بالإمكانيات المتاحة كافة معالجته والتخفيف من آلام جسده، لكن المزيد من العقاقير والأدوية لم نستطع توفيرها للنأي به عن الموت، وكان القرار بتحويله إلى مستشفيات الداخل لتلقي علاج خاص بمرض سرطان الدم الذي ألم بجسده "، يصمت قليلاً أيام معدودة وكانت أمور التحويلة للعلاج بالخارج منتهية "، لكن يجاهد في عدم إسدال دمعة اغرورقت بها عيناه يقول :" لم يحتمل مرارة الانتظار الطويل "، مؤكداً أنه صمد شهرين ونصف في انتظار السماح له بالمرور إلى مستشفيات الداخل المحتل لكن دولة الاحتلال رفضته لذرائع أمنية، ولما ضاق صدره بطول الانتظار واستفحل المرض في جسده لم يجد إلا الموت بإذن الله سبيلاً للراحة، يقول الطبيب :"حين سمعت بنبأ وفاته تملكني الألم والغضب والحزن المرير لكني رجوت الله أن يكون في الموت راحةً له ورحمة ".

لتحويل للخارج

حين لا يكون ملاذاً إلى مستشفيات الخارج لاستحالة توفير إمكانيات العلاج في القطاع يتم تحويل الحالات المرضية إلى الخارج وهنا تكمن المأساة التي يذيقها الاحتلال للمرضى فيعمدون إلى عرقلة مرورهم بإغلاق المعابر والحدود فمنهم من يصبر على الألم ومنهم من يقضي ميتاً في ظل مرارة الانتظار الطويل.عشرات من المرضي كانوا يحتاجون العلاج بالخارج قضوا نحبهم على مدار ستة أشهر من الحصار الإسرائيلي على غزة وما زال طابور الموت في غزة في انتظار الكثير في ظل حالة الحصار الخانق المفروض على القطاع،وأخيرا يتمنى د. سكيك ألا يتم تحويل حالات مرضية إلى الخارج وتوفير إمكانيات علاجهم في مستشفيات القطاع، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه في ظل نقص الأدوية والأجهزة والمعدات الطبية الضرورية، مؤكداً أن المعاناة التي يتجرعها المريض في الوصول إلى مستشفيات الداخل المحتل عام 48 أو مستشفيات الخارج مريرة ويتجرعها أهله معها فلا يملكون له نفعاً ولا ضراً، إلا انتظار الرحمة والسماح لهم بالمرور ممن خلت قلوبهم من الرحمة